بسم الله الرحمن الرحيم
قِصرُ الأمَلِ (1)
قالَ اللهُ تعالى "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنيا إلا مَتَاعُ الْغُرُورُ". [سورة ءال عمران، 185 ] وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ "إِذَا أَصْبَحْتَ فلا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ فلا تَنْتَظِرِ الْصَّباحَ وَخُذْ مِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ وَمِنْ صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ".وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ أَنَّهُ قالَ "إِنَّ مِنْ أَشَدِّ مَا يَخَافُ الْمُسْلِمُ على نَفْسِهِ خَصْلَتَيْنِ: اتِّبَاعَ الْهَوَى وَطُول الأَمَلِ، أَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَإِنَّهُ يَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وَأمَّا طُولُ الأَمَلِ فَإِنَّهُ حُبُّ الدُّنيا" اهـ. وَجَاءَ في صَحيحِ البُخَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّما الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيم" مَعْنَاهُ قَدْ يَعْمَلُ الْعَبْدُ ظَاهِرًا بِأَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ وَلَكِنَّ اللهَ شَاءَ لَهُ في الأَزَلِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَحْسُنُ حَالُهُ في الأَخيرِ حَتَّى يَعْمَلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَيَمُوتَ على ذَلِكَ وَيَدْخُلَهَا، وَقَدْ يَعْمَلُ عَبْدٌ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ظَاهِرًا لَكِنَّ اللهَ شَاءَ في الأَزَلِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلى ذَلِكَ وَيَدْخُلَهَا، فَالْعِبْرَةُ بِالْخَوَاتِيمِ. وَمَعْنَى قَولِهِ "وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيم" أَي أَنَّ الْجَزَاءَ يِكُونُ عَلى مَا يُخْتَمُ بِهِ لِلْعَبْدِ مِنَ الْعَمَلِ، فَمَن خُتِمَ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَهُوَ سَعِيدٌ، وَمَنْ خُتِمَ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَهُوَ شَقِيٌّ، وَلَيْسَ بِمَا يَجْري عَلى الإِنْسَانِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَمَنْ عَاشَ كَافِراً ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ عَلى عَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَهُوَ يُجَازَى بِمَا خُتِمَ لَهُ بهِ، وَمَنْ كَانَ عَلى عَكْسِ ذَلِكَ فَيُجَازَى بِحَسَبِ مَا خُتِمَ لَهُ بِهِ. وقَدْ قالَ الإمَامُ الطَّحَاوِيُّ في عَقِيدَتِهِ: "وَكُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا قَدْ فُرِغَ لَهُ وَصَائِرٌ إِلى مَا خُلِقَ لَهُ" أَيْ أَنَّ كُلاً مِنَ الْعِبَادِ يَعْمَلُ لِمَا قَدْ كَتَبَهُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى لَهُ في اللَّوحِ، وَمِمَّا يَدُلُّ على أَنَّ الثَّوابَ في الْجَنَّةِ فَضْلٌ مِنَ اللهِ تعالى قَولُهُ صلى الله عليه وسلم : "لاَ يُنْجِي أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ" قالوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسولَ اللهِ قال: "وَلاَ أَنا إِلاَّ أَن يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ" رَواهُ الإِمامُ أَحْمَدُ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنْهُمَا "أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبي فَقَالَ كُنْ في الدُّنيا كَأَنَّكَ غَريبٌ أَوْ عَابِرُ سَبيلٍ" مَعْنَاهُ لا تَتَعَلَّقْ بِهَذِهِ الدُّنيا إِلا كَتَعَلُّقِ الْغَريبِ بِالْمَكَانِ الَّذي نَزَلَ فيهِ أَوْ عَابِرِ السَّبيلِ الَّذي لَمْ يَصِلْ إِلى مَقْصِدِهِ بَعْدُ، فَمِنْ شَأنِ هَذَينِ أَنَّهُمَا يَتَزَوَّدَانِ مِنْ مَكَانِ عُبُورِهِمَا لِمَكَانِ وُصُولِهِمَا، فَجَديرٌ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يَعْمَلَ في أَيَّامِ الدُّنْيا الْقِصَارِ لأَيَّامِ الآخِرَةِ الطِّوَالِ الَّتي لا نِهَايَةَ لَهَا، وَأَنْ لا يُعَلِّقَ قَلْبَهُ بِنَعيمِ الدُّنيا الزَّائِلِ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ الصِّحَّةُ والْفَرَاغُ" مَعْنَاهُ كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ لا يَغْتَنِمُ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ ثُمَّ يَعْرِفُ قَدْرَهُمَا عِنْدَ زَوَالِهِمَا، وَكَانَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ في مَوْعِظَتِهِ "فَإِنَّمَا هِيَ الأَنْفَاسُ لَوْ حُبِسَتْ انْقَطَعْتْ بِهَا أَعْمَالُكُمْ الَّتي تَتَقَرَّبُونَ بِهَا للهِ عَزَّ وَجَلَّ، رَحِمَ اللهُ امْرَءًا نَظَرَ إِلى نَفْسِهِ وَبَكَى عَلى عَدَدِ ذُنُوبِهِ" ثُمَّ تَلا الآيَةَ "إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا" [سورة مريم، 84] " اهـ. يَعْنِي الأَنْفَاسَ، وَءاخِرُ الْعَدَدِ خُرُوجُ نَفْسِكَ وَفِرَاقُ أَهْلِكَ وَدُخُولُكَ قَبْرَكَ فَلا تُسَوِّفْ وَلا تُؤُخِّرِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ. فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيِ الْعَبْدِ كَرْبٌ وَلا عَذَابٌ سِوَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ لَكَانَ كَافِيًا لأَنْ يَتَنَغَّصَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ وَيَتَكَدَّرَ عَلَيْهِ سُرُورُهُ وَيُفَارِقَهُ سَهْوُهُ وَغَفْلَتُهُ. اللهُمَّ لا تَجْعَلْنَا مِنَ الْغَافِلينَ.هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم (44)بسم الله الرحمن الرحيم
قِصرُ الأمَلِ (2)
اعْلَمْ أنَّ الْجَنَائِزَ فيها عِبْرَةٌ للبَصيرِ وَتَنْبِيهٌ وَتَذْكِيرٌ، فَكُنْ مِنْ أهْلِ الاعْتِبَارِ وَلا تَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْغفْلَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْغَفْلَةِ مِنْ شَأنِهِمْ أَنَّهُمْ لا يَعْتَبِرُونَ بِمَا يَرَوْنَ وَلا يَتَفَكَّرُونَ أَنَّهُمْ إِنْ حَمَلُوا الْجَنَائِزَ فَغَدًا سَيُحْمَلُونَ، وَأَنَّ الْمَرْءَ مَهْمَا مَلَكَ مِنْ مَالٍ وَجَاهٍ فَتَرَى قَصْرَهُ ثُمَّ قَبْرَهُ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ سَيِدَنَا عُمَرَ بْنَ عَبْدَ العزيزِ رَضي الله عَنْهُ كَانَ يَمْشي في جِنَازَةٍ فَرأى أُنَاسًا يَتَوَقَّوْنَ حَرَّ الشَّمْسِ وَيَهْرُبُونَ مِنْ غُبَارِ الطَّرِيقِ كي تَبْقَى بِشَاشَتُهُمْ فَبَكَى وَقالَ:مَنْ كَانَ حَينَ تُصيبُ الشَّمْسُ جَبْهَتَهُ أَوِ الْغُبَارُ يَخَافُ الشَّيْنَ وَالشَّعَثا
يَأوي إلى الظِّلِّ كَيْ تَبْقَى بَشَـاشَتُهُ فَسَوْفَ يَدْخُلُ يَوْمًا رَاغِمًا جَدَثَا
في ظِـلِّ مُقْفِـرَةٍ غَبْـرَاءَ مُـظْلِمَةٍ يُطِيلُ تَحْتَ الثَّرَى في غَمِّهَا اللَّبَثَا
والشَّيْنُ ضِدُّ الزَّيْنِ، وَالأَشْعَثُ هُوَ مُغْبَرُّ الرَّأسِ، والْجَدَثُ الْقَبْرُ، والثَّرَى التُّرَاب .واللبث المكث. فَإِذَا نَظَرَ الإنْسَانُ إِلى جِنَازَةٍ فَلْيُقَدِّرْ نَفْسَهُ مَحْمُولا عَلَيْهَا وَلْيُسَارِع إلى التَّوْبَةِ وَقِصَرِ الأَمَلِ بِطُولِ الْعَيْشِ فَإِنَّهُ لا بُدَّ سَيُحْمَلُ على الْقُرْبِ. قَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ رَضيَ اللهُ عنهُ: "كُنَّا نَشْهَدُ الْجَنَائِزَ فلا تَرى إِلا مُقْتَنِعًا بَاكيًا" اهـ. وَذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ اعْتِبَارِهِمِ وَتَذَكُّرِهِمْ أَنَّهُمْ عَنْ قُرْبٍ سَيَرْحَلُونَ، وَهَكَذَا كَانَ خَوْفُهُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَمَّا الآنَ فَلا تَكَادُ تَنْظُرُ إلى جَمَاعَةٍ يَحْضُرُونَ جِنَازَةً إِلا وَأَكْثَرُهُمْ يَضْحَكُونَ وَيَلْهَوْنَ وَيَتَكَلَّمُونَ في ميرَاثِهِ وَأَحْيانًا يَقَعُونَ في غِيبَتِهِ وَسَبَبُ هَذِهِ الْغَفْلَةِ قَسْوَةُ الْقَلْبِ، وَالَّذي يُؤَدِّي إِلى قَسُوَةِ الْقَلْبِ هُوَ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ والْوُقُوعُ في الْمَعَاصِي نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَنَا مِنَ الْغَفْلَةِ.