بسم الله الرحمن الرحيم
ـــــ عبد الله بن المقفع معرّب كتاب كليلة و دمنة , كان مولده في جور من بلاد فارس في العشر الأول من المائة الثانية للهجرة . و كان اسمه "برزوبيْه بن دادويْه" , و هو مجوسي المذهب , دعي أبوه بالمقفع لتشنج أصاب يديه لما أمر والي العراق الحجّاج بن يوسف بتنكيله لتهمة مدّه يده الى أموال الدولة , اذ كان متوليا أعمال الخراج في فارس و العراق . فعرف ابنه بابن المقفع , ثم أسلم فدعي باسم عبد الله , لكنه لم يزل معروفا بقلّة دينه مرميا بالزندقة . و كان أديبا بليغا فاستكتبه السفاح ثم أخوه أبو جعفر المنصور الخليفتان العبّاسيّان , الا أن المنصور نقم عليه بعد مدة لكلام بلغه عنه في حقه , فتقدم الى امير البصرة سفيان بن معاوية بقتله و مثّل به , و ذلك سنة 709ه و عمره لا يتجاوز 36 سنة .
و قد خلف ابن المقفع عدّة تآليف نقل بعضها من كتب الفرس كسيّر ملوك العجم و سيرة "أنوشروان" , و ألف هو غيرها منها الأدب الكبير و الأدب الصغير و كتاب الدرة اليتيمة .
أصل الكتاب :
كان في زمن الملك الهندي "دبشليم" رجل فيلسوف من البراهمة , فاضل حكيم يعرف بفضله و يرجع اليه في قوله اسمه "بيدبا" الفيلسوف , لما رآى ما عليه الملك من ظلم الرعية فكر في ايجاد حيلة في صرفه عما هو عليه و ردّه الى العدل و الانصاف , فاختار يوما للدخول على الملك "دبشليم" , حتى اذ كان اليوم المختار , القى عليه مسوحته و هو لبس البراهمةو قصد الملك , فاذن له بالدخول و بما أن الملك كان يؤمن أن الحكماء أغنى من الملوك بالعلم ففسح له مجال الكلام .
فهدئ روع بيدبا و سرّى عنه ما كان وقع في نفسه من الخوف و سجد بين يديه و قام ثم قال : أن أول ما أقول أسأل الاهي بقاء الملك الى الأبد , و دوام ملكه على الأمد....ثم قدم له النصيحة , هي أن يكون عادلا و يحكم بالحق , فلما قضى بيدبا مقالته , ارتعب قلب الملك من شدّة الغضب و أمر أن يقتل و يصلب , فلما مضوا به فيما أمرهم , أمر باعادته و الكف عنه , ثم أمر بحبسه . و بعد أيام طوال أمر باحضاره و قال له , أعد عليا ما قلته و لا تدع منه حرفا الا جئت به , فعفى عنه و عينه وزيرا لدولته , و مضى الملك على ما رسم بيدبا من حسن السيرة و العدل في الرعية , و ذات يوم عرض الملك عليه تأليف كتاب يكون دستورا لحسن السياسة . ففكر له بيدبا و سجد و قال : أجبت الملك لما أمر به من ذلك و جعلت بيني و بينه أجلا , قال الملك : و كم هو يا بيدبا , قال : سنة , فبدء في نظم الكتاب على غاية الاتقان و الأحكام , و رتبه على أربعة عشر بابا كل باب مسألة و جواب و سمّاه "كليلة و دمنة" و جعل الكلام على ألسن البهائم و السّباع و الوحش و الطير ليكون ظاهرة لهوّ للعامة و باطنه سياسة للخاصة .
كان الملك "أنوشراون" كسرى قد بلغه عن ذلك الكتاب و ما فيه من منافع تقوّى به العقول و الادب , لم يطمئن حرصا على النظر فيه و في عجائبه , فسأل أهل مملكته أن يختاروا رجلا عاقلا أديبا ماهرا بالفارسية و الهندية , فأتيّ برجل شاب جميل ذي حسب , كامل العقل و الأدب اسمه "برزويه" , فقال له الملك : بلغني عن كتاب للهند مخزون بخزائنهم , و قصّ عليه قصّته و أخبره بما بلغه عنه و طلب منه للخرج في طلبه .
سافر برزويه الى ارض الهند مدعيا انه طالب علم , و جاء يبحث عن العلماء و الفلاسفة , مضى و مشى في الاسواق حتى تعرف على رجل يدعى "أدويه" و جعله صاحب سرّه و مشورته , الا أمر واحد كان يكتمه و هو ما جاء من اجله . و بعد أن وثق به و أطمئن اليه قال له ذات يوم : يا اخي ما اريده أن أكتمك من امري شيئا فوق ما كتمت , و أخبره بالأمر . فقال الهندي :قدمت بلادنا لتسلبنا كنوزنا النفيسة و تذهب بها الى بلادك لتسرّ بها ملكك , و كان قدومك بالمكر و الخديعة , و لكني رأيت من صبرك و مواضبتك على طلب حاجتك , و أحببت اخائك , فلا أعلم أني رايت رجلا أرصّن عقلا و لا أصبر على طلب حاجة , و لا أكتم للسر منك .
كان الهندي خازن الملك و بيده مفاتيح خزائنه , فأعطاه حاجته من الكتب , فلما بدء برزويه على مطلوبه أخذ ينسخ كليلة و دمنة و تفسيره , و أقام على ذلك زمانا طويلا و عظمت فيه نفقته و مؤونته , و أعيا بدنه و سهر فيه ليله و دآب فيه نهاره , و هو على خوف من نفسه , فلما فرغ من ذلك كتب الى "أنشروان" يعلمه بما لقى من العياء و التعب و الروّع و انه قد فرغ من حاجته .
لما عاد برزويه أمر الملك أن تفتح له خزائن الجوهر و الذهب و اقسم عليه أن يأخذ ما أحب منها و أن لا يقصّر , و قال له :سل تعط ما أحببت وأشفع تشفع , أذكر حاجتك تسعف بها و تكرم فان جزاءك عندنا عظيم . فطلب برزويه من الملك أن يشرفه و يأمر "بزرجمهر بن البختكان" وزيره و يعزم عليه أن يجهد في وضعه بابا يذكر فيه أمره و حاله . فكان له ما أراد و سموّه "باب برزويه المتطبب" .