بسم الله الرحمن الرحيم
ــــ...أمسك التاجر عسكر بن أبي نصر الحموي بيد الفتى بعد أن اشتراه من أحد الباعة في أسواق بغداد , و سأله عن اصله و اسمه فتلعثم هذا الفتى , و لم يجّب الا بانه من بلاد الروم , و انه لا يعرف شيئا عن أجداده و أن اسمه ياقوت .
انه شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت عبد الله الحموىّ , الذي ينسب الى حماه , لا لانه ولد فيها , و لكن مولاه الذي اشتراه من أصل حمويّ .
ولد ياقوت الحمويّ 575ه - 1179 و نشأ في كنف سيّده , الذي كان لا يحسن الخط و لا يجيد القراءة , و لا يحذق غير التجارة , أراد أن يكمل هذا النقص الذي يحس به , فدفع الفتى المملوك الى الكتاب ليتعلم القراءة و مبادئ الحساب لعله يعينه في قضايا البيع و الشراء , و لكن هذا الفتى النابه , لم يكتفي بهذه المبادئ الأولية في التعليم , بل أخذ يتسلل الى مجالس العلماء و الفقهاء و الادباء , و يتلقى بذهنه المتفتح مختلف صنوف العلم كالنحو و اللغة و الأدب .
شبّ ياقوت و اشتدّ عوده و اتسعت خبرته , فأخذه سيده معه في بعض الرحلات التجارية و يكلفه بظبط الحسابات و تسجيل معاملات البيع و الشراء , فكان نعم الصاحب و نعم الحاسب . بعدها قام بعدة رحلات بمفرده بعد أن وثق فيه سيّده , منها عمان و الشام و الخليج العربي , تعرف فيها على خصائص كل بلد و تقاليد أهله , و كان أكثر ما يلفت نظره في تلك البلدان طبيعتها الجغرافية و موقعها من البحر و اليابسة , و جوّها الحار أو البارد , و ما فيها من مكتبات و علماء و أدباء , فكان كلما عاد الى بغداد اختلى بنفسه و جعل يسجل ملاحظاته و مذكراته مبتهجا بما جلب معه من كتب و مخطوطات . لما بلغ ياقوت الواحدة و العشرين من عمره , حدثت جفوة و خلاف بينه و بين سيّده , لكن هذه الجفوة كانت سببا في أن ينال حرّيته و ينفرد بنفسه , لكنه أحس بالفاقة و العدم ,فرق له قلب عسكر , و منحه شيئا من المال ليتاجر به و بعثه الى جزيرة "كيش" الواقعة بين بحر عمان في الخليج العربي .
كانت رحلات ياقوت السابقة , ولّدت في نفسه حب السفر و لذة الاكتشاف ,غير أنه أعرض التجارة التي كان يزاولها من قبل , و رآى أن من الأوفق له أن يزاول تجارة تلبي له احتياجته المادية و العقلية في آن واحد , و هل هناك تجارة غير تجارة الكتب ؟
كان ياقوت في السابعة و ثلاثين من عمره يمّم شطر "تبريز" في بلاد فارس ثم رجع الى الموصل , و منها الى دمشق و هناك جرت بينه و بين أحد العلماء مناظرة دينية حادة فأشتد الخلاف حتى ثار الناس في دمشق على ياقوت و همّوا بقتله , فما كان عليه الا ان هرب متخفيا و وصل الى حلب , لكن لم يمكث بها طويلا فغادرها قاصدا مدينة "أربل" و منها اتجه الى ارمينية , ثم كرّ عائدا الى شرقي ايران , حتى بلغ مدينة نيسابور فتزوج و استقر فيها مدة سنتين , كانت له فرصة سانحة لمراجعة مذكراته , و نسخ و دوّن و رتب المعلومات الجغرافية و بوّبها , و هو يحلم أن تتحول الى كتاب ضخم يكون حصيلة جهوده و ثمرة ابحاثه , ثم رحل الى "مرو" الخراسنية أقام بها سنتين أمضهما في المطالعة و نسخ الكتب و المراجع , ناعم البال حتى قال عنها : ..فكنت أرتع فيها , وأقتبس من فوائدها , و أنساني حبها كلّ بلد , و ألهاني عن الأهل و الولد , غير انه لا بد له من السفر فشدّ الرحال الى خوارزم .
سنة 616ه كان ياقوت مقيما في خوارزم يواصل مطالعته و أبحاثه , و اذا به يسمع فجأة بأن التتار قد قاموا باجتياح البلاد و قتل الأبرياء من العباد , فانتابه الذعر و القلق و هو لا يدري الى اين يفر .
انطلق جنكيز خان بنفس لا تعرف الرحمة و لا الشفقة , على رأس جيشه الكثيف المتوحش يحرق المباني و يدمر , و في نيته الاستلاء على البلاد الاسلامية .
فما كان على يقوت الا ان سارع الى الهرب من خوارزم , تاركا كتبه الغالية الثمينة و هو يتحسر عليها . فظل يتنقل من مرو الى قزوين الى تبريز و أخبار التتار تلاحقه أينما حلّ , الى ان بلغ الى الموصل هناك استقبله أهلها , و لم يمكث بها طويلا , تحركت فيه نوازع الرحيل و أخذ يفكر في مكان آمن ليتمّ كتابه (معجم البلدان) , لكن الى أين؟ .
لماذا لا يتوجه الى حلب الشهباء ؟ الى عالمها و وزيرها الفاضل علي بن يوسف القفطيّ , أمسك ياقوت بالقلم و خطّ رسالة الى الوزير التي تعدّ رائعة من روائع الأدب الرفيع .
استقبله الوزير القفطيّ في حلب عام 620ه , و اتخذ لنفسه خانا في نواحي حلب , و عكف على ما تبقى في يده من أوراق و ما في ذاكرته من معلومات , و بعد عام كامل تم الكتاب بفصوله و ابوابه , فحمله الى الوزير و قدمه هدية اليه اعترافا بفضله .
في هذا الكتاب يرتب ياقوت أسماء البلدان بحسب حروف المعجم و يعرض أسماء بعض العلماء و الشعراء . و اهمية المعجم تجاوزت حدود الاهداف الجغرافية الضيقة , فهو يمثل آخر انعكاس لتلك الوحدة المثالية للعالم الاسلامي تحت حكم العباسيين . أما معجم (الأدباء) جمع فيه ما وقع من اخبار النحويين و اللغويين و القراء المشهورين و المؤرخين , و أصحاب الرسائل المدوّنة , و ارباب الخطوط المنسوبة و المعينة , وكل من صنف في الأدب تصنيفا , أو جمع منه تأليفا .
جعل ياقوت مدينة حلب مستقرا له و مقاما , لا يخرج منها الا قليلا , اذ طابت له الحياة فيها , و فتنته قلعتها الشامخة , و أغرته مجالس العلماء و الفقهاء في ربوعها , الى أن وافاه الأجل المحتوم , و القضاء المرسوم في سنة 626ه - 1229م بعد أن تبرع بمكتبته العامرة لمسجد بغداد , فقام بتنفيذ و صيته هذه المِؤرخ العربيّ الشهير , أبو الحسن عليّ بن الأثير .