باريس - مرة أخرى سيكون الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي محل اهتمام وسائل الإعلام العالمية بمشروعه "الاتحاد من أجل المتوسط" الذي سيخرج إلى النور غدا الأحد في قمة باريس.
ساركوزي الذي يستضيف ممثلي 44 دولة من الاتحاد الأوروبي والدول المشرفة على حوض البحر الأبيض المتوسط، يطمح في أن يكون هذا الاتحاد "مشروعا متعدد الأبعاد والرهانات من أجل التنمية والسلم في دول المتوسط"، غير أنه -وبعيدا عن هذه الأمنيات- هناك واقع تستعصي بعض قضاياه على "مجرد قمة وديكور وصور للذكرى".
حيث أراد أم لم يرد، فإن إعلان ساركوزي عن ولادة "الاتحاد من أجل المتوسط" يعني وفاة مشروع آخر يوازيه، وربما كان يحمل نفس الآمال، وهو "مسار برشلونة" الذي انطلق سنة 1995 بمبادرة من الاتحاد الأوروبي وبقيادة إسبانية؛ وهو ما جعل الإسبان في البداية يرتابون من مشروع ساركوزي، قبل أن ينخرطوا فيه مسلمين بقبر مشروعهم، خاصة أن مهندسي المشروع الجديد وعدوهم بإمكانية أن تصبح مدينة برشلونة مقر أمانة الاتحاد، وهو نفس الطموح الذي يحمله التوانسة.
نهاية "مسار برشلونة" عزاه "هنري غواينو"، المستشار الخاص لساركوزي، إلى أنه كان مشروعًا أحادي الجانب، أي "مسارا يقرر فيه كل شيء من قبل الشمال وكان ملك الشمال، أما الاتحاد من أجل المتوسط فسيكون مسار تعاون يتم فيه تقاسم المسئولية".
رئاسة ثنائية
لكن بعيدا عن صورة هذا البناء الجماعي الذي تتحمل فيه كل دول الحوض مع الدول الأوروبية المسئولية.. من الذي سيقود الاتحاد؟ وما هي آليات إدارته؟
الإجابة جاءت على لسان ساركوزي ذاته يوم 8-3-2008 في حوار لجريدة "لوفيجارو" الفرنسية، قال فيه: "إن الرئاسة ستكون ثنائية، أي رئيس من دول شمال حوض البحر المتوسط ورئيس من حوض جنوب المتوسط، وستتم اجتماعات رؤساء الدول والحكومات كل عامين".
طبعا رئاسة الاتحاد في دورته الأولى، والتي ستتواصل لمدة عامين ستكون لساركوزي، إضافة إلى رئاسته للاتحاد الأوروبي التي بدأت غرة يوليو الجاري؛ ليؤكد المعطى الذي كثيرا ما رددته وسائل الإعلام الفرنسية من أن الرجل (ساركوزي) مهووس -لحد المبالغة- بصورته الإعلامية وبرغبته في القيادة.
وينتظر أن يكون الرئيس الثاني مع ساركوزي في هذه الدورة هو الرئيس المصري حسني مبارك، الذي يقول مراقبون إنه رغم موقفه "الهادئ" طيلة الشهور السابقة على تأسيس الاتحاد، فإنه يطمح لدور ريادي فيه؛ بالنظر لمكانة مصر في دول جنوب حوض المتوسط.
الصراع العربي/ الإسرائيلي
وبعيدا عن رغبات ساركوزي الذاتية، خاصة في إبراز صورته في كل مناسبة، فإن الأهم هو رهانات المشروع، خاصة السياسية منها، مثل "تحقيق السلام" بين بلدان حوض المتوسط.
وهنا بالذات، وبالنسبة للعديد من المراقبين، يكمن بيت القصيد في المشروع السياسي للمتوسطي، باعتباره فضاء لحل الصراع العربي/ الإسرائيلي، خاصة أن ثلاثة من أربع دول عربية محيطة بإسرائيل تشارك في قمة باريس، ويجلس قادتها (وهم: الرئيس مبارك، واللبناني ميشال سليمان، والسوري بشار الأسد) على الطاولة التي سيجلس عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت.
هذا فضلا عن حضور ثلاثة رؤساء دول عربية أخرى، وهي المغرب والجزائر وتونس، إضافة إلى المعني الأول بالصراع، وهو رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.
رغبة ساركوزي في استعمال "الاتحاد من أجل المتوسط" لإحداث خرق في الصراع العربي/ الإسرائيلي يؤكدها العديد من الخبراء الفرنسيين.
ويقول باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية بباريس، في عمود له على موقع المعهد: إن ساركوزي جاء بهذا المشروع للدوران حول مسار برشلونة الذي فشل بالذات في معالجة هذا الملف.
غير أن بونيفاس يطرح المشكلة من زاوية أن "المشروع يستهدف طرح مشروعات تعاون بين بلدان المتوسط، بما فيها إسرائيل، لا يرتبط إنجازها بإنهاء الصراع، كمشاريع البيئة والتنمية بالمنطقة".
وأضاف أنه "لا يجب التوهم بأن الدول العربية ستنحي الصراع جانبا لتهتم بالجوانب التنموية، كما أنه لا تنمية ولا سلام دون إيجاد حل للصراع.
لكن السؤال المطروح في هذه المسألة، بحسب بونيفاس، هو: "ما حدود قدرة ساركوزي ومشروعه المتوسطي على إنهاء الصراع الذي عجزت عن حله حتى الآن كل المنتديات والمنظمات والقمم الدولية؟ أم أن الأمر يتعلق بكسر حالة الممانعة العربية والإيهام بالتطبيع عن طريق مصافحات بين الزعماء العرب وقادة إسرائيل؟".
تركيا والاتحاد
معضلة الصراع العربي/ الإسرائيلي في مشروع ساركوزي، والتي دفعت الزعيم الليبي معمر القذافي لمقاطعة قمة باريس، لا توازيها إلا معضلة رغبة تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي.
ويعتبر ساركوزي، وهو المعروف بموقفه الرافض لالتحاق الأتراك بالاتحاد، أنه أوجد بالمشروع الجديد فضاء آخر للطموح التركي، وهو ما اعتبرته الصحافة التركية "تلاعبا سياسيا"؛ مما دفع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى التردد كثيرا قبل إعلان حضوره قمة الغد.
الريبة التركية من "الاتحاد من أجل المتوسط" لم تقلل منها إلا تعهدات الفرنسيين على الإقرار في بيان إعلان الاتحاد بأن تركيا "تبقى بلدا مرشحا للاتحاد الأوروبي".
وفي مؤتمر حوار الحضارات بالعاصمة الإسبانية مدريد في يناير 2008، قال أردوغان: "إن الاتحاد من أجل المتوسط ليس بديلا بالنسبة إلينا عن الانضمام للاتحاد الأوروبي".
أما ساركوزي فعبر في أكثر من مناسبة، ومنها خطابه الشهير في مدينة تولون إبان الانتخابات الرئاسية العام الماضي، عن "أن فضاء تركيا الطبيعي هو المتوسطي"، وبالتالي فإنه سيعطيها مكانتها كاملة في صلب مشروعه الجديد.
الهجرة السرية
طبعا الإعلان عن "الاتحاد من أجل المتوسط" يأتي استجابة أوروبية عامة، وفرنسية على وجه الخصوص؛ لمواجهة مشكلة الهجرة السرية المتفاقمة، والتي دفعت الفرنسيين يوم 6 و7 يوليو، لطرح "الاتفاقية الأوروبية للهجرة".
وتدعو هذه الاتفاقية الأوروبيين لاتباع سياسة موحدة في مواجهة الهجرة السرية وطرد المهاجرين غير الشرعيين، وتوحيد سياسية منح اللجوء للأجانب، وهو أمر تضعه بلدان الشمال الأوروبي كأحد أولوياتها الرئيسية كمقابل انخراطها في مشاريع التنمية والاستثمار في بلدان جنوب المتوسط، وهو ما عبرت عنه اتفاقية الهجرة الفرنسية، التي زكاها الأوربيون، بدعوتها إلى تنمية الموارد، وإيجاد فرص عمل في بلدان الجنوب.
البعض يعتبر أن "الاتحاد من أجل المتوسط" هو الفضاء الجغرافي الذي يريد من خلاله ساركوزي معاجلة ملف الهجرة السرية، خاصة أن العدد الأكبر من المهاجرين الذين يتوافدون على أوروبا يأتون من بلدان المغرب العربي وإفريقيا عامة، وهو ملف يرتبط بملفات أخرى يسعى المشروع لمعالجتها، كملف الأمن الغذائي والإرهاب، وهو الملف الذي قام من أجله ساركوزي بجولات مكوكية بين بلدان المغرب العربي طوال النصف الأول من هذا العام.
وعلى الرغم من أن العقيد القذافي اعتبر في آخر هجماته على مشروع ساركوزي أن هذا الاتحاد من شأنه زيادة أخطار الإرهاب بالمنطقة، فإن تزايد عدد المهاجرين، خاصة المغربية في أوروبا، خصوصا في فرنسا (6 ملايين مسلم)، تجعل التنسيق الأمني ضروريا بين البلدان المغاربية ونظريتها الأوروبية، خاصة أن كل القمم السابقة لـ"مسار برشلونة" وقمم "5 زائد 5" بين بلدان جنوب وشمال المتوسط لم تحد من الأخطار الأمنية في أوروبا.
ولم تخف الصحافة الفرنسية الفرحة العارمة التي عبر عنها ساركوزي بمجرد سماعه خبر حضور الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة القمة في آخر لحظة، بعد تردد جزائري شديد، فبالنسبة للرؤية الفرنسية، فإن معاجلة الملف الأمني في المتوسط دون الجزائر يبقى ناقصا، خاصة أن هذا البلد يضم "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، والذي لا يستبعد ضرب مصالح أوروبا، وخاصة فرنسا المستعمر القديم.
الولادة أولا
لا شك أن أحد أولويات مشروع "الاتحاد من أجل المتوسط"، فضلا عن مشكلة الإرهاب والهجرة السرية وطموح ساركوزي للعب دور في الصراع العربي/ الإسرائيلي، هو إنجاز هذا الاتحاد الافتراضي أولا.
ورغم أن ساركوزي شبه هذه الولادة لمشروع الاتحاد المتوسطي بولادة مشروع الاتحاد الأوروبي قبل ستين عاما، فإن الفارق بالنسبة لكل المراقبين يعد جوهريا؛ فإذا كان مشروع الاتحاد الأوروبي هو مشروع المصير والوجود بالنسبة لفرنسا وأوروبا، فإن "الاتحاد من أجل المتوسط" هو مشروع وقاية من الأخطار، أي درع يقي أوروبا من أخطار الإرهاب، والهجرة السرية، وخطر تفجر الحروب مجددا بمنطقة الشرق الأوسط، فضلا عن إيجاد فضاء بديل لتركيا عن الفضاء الأوروبي الطامحة إليه.
لكن السؤال الذي يردده المراقبون هو: ما الذي يستطيع ساركوزي وأوروبا أن تقدمه للبلدان العربية المشاركة في قمة باريس، من بنى تحتية وتنمية مستديمة ومشروعات اقتصادية، وسط أزمة الغذاء التي تعيشها البعض منها، مقابل مساهمة هذه الدول في هذا الدرع الواقي الجديد لأوروبا على ضفافها الجنوبية؟.
[/