قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:
احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَخطبتي جمعة
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
[وجه شريط مفرّغ]بسم الله الرحمن الرحيم
[
الخطبة الأولى]
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات
أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله،
وصفيه وخليله، هو البشير النذير بشّر بالجنة وأنذر من النار، فصلى الله عليه دائما
وأبدا كلما تعاقب الليل والنهار وكلما ذكره الذاكرون وغفل عن الصلاة عليه الغافلون
كِفاء ما أرشدنا وكفاء ما بشّر وأنذر وكفاء ما هدى وعلم، وصلى الله على آله وصحبه
ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال «
احرصعلى ما ينفعُك» هذه الجملة من ذاك الحديث العظيم قاعدة من القواعد التي يمشي
عليها المسلم في حياته؛ الحرص على ما ينفعه، «
احرص على ما ينفعك» يعني لتكن
حريصا، لتكن شَغُوفا، لتكن مُقبلا على الذي ينفعك، على الذي ينفعك في آخرتك، على
الذي ينفعك فيما ستؤول إليه حياتك وما يتبع ذلك من أمر الدنيا، ذلك -أيها المؤمنون-
أنّ الحرص مركّب في النفس البشرية ركَّب الله جل وعلا العباد وفَطَرهم على أن
يكونوا حريصين فالحرص موجود في النفس، ولهذا كان من توجيهات الشّرع الحكيم أن يوجّه
حتى ما هو من شؤون النّفس، حتى تتوجه نفسُ العبد قلبا وقالبا، صورة وروحا، حتى
تتوجه إلى الله، حتى تتوجّه إلى ما يستقبلها بعد الممات.
إنّ الحرص مركب في الأنفس كل امرئ تجد عنده حرص، فتجد الناس متنوعين:
هذا يحرص على جمع المال، هذا يحرص على جمعه من شتى ميادينه وبشتى أنواع الجمع،
وهذا حرص يجده في نفسه مركّبا.
والثاني تجده يحرص على تتبع شهواته، على تتبع ما فيه ملذاته، على تتبع ما
فيه راحته في هذه الدنيا، تارة بحلال، وتارة بأنواعٍ من الحرام.
وآخر تجد أنه يحرص على تتبع أنواعٍ من الأخبار إمّا الأخبار السياسية وإما
الأخبار العلمية النّظرية.
وهكذا في أنواع من الناس تجدهم يحرصون على أنواع من الثّقافات، ليَغْذُوا
يذلك عقولهم -كما يقولون- ولكي يتنوَّرُوا، تجد أنهم في حرص في ذلك يسعون إليه وفي
قلوبهم شغف له.
وإذا نظرت إلى الشباب وجدت أن حرصهم وشغفهم على أنحاء متنوعة: فمنهم من حرصه على مجالس الزملاء
وعلى مجالس الأصدقاء، يقضون فيها بعض ليل وبعض نهار في حرص منهم على تلك اللقاءات
وتلك الاجتماعات، وهذا لأجل أنه شيء يجدونه في أنفسهم، يترجم بتصرف منهم تارة لا
يكون موزونا بميزان الشرع ولا بميزان العقل الصريح. وهكذا إذا نظرت إلى النساء وجدت عندهم أنواعا من الحرص بما ركّب الله جلّ وعلا في طبيعة النساء من أنواع الحِرص، فهذه تحرص على ملابس، وتلك تحرص على قيل
وقال، وتلك تحرص على أولاد، وتلك تحرص على أنواع من الأغذية، وهكذا في أنواع من
النساء كلٌّ يحرص على ما يواكب نفسَه، كل يحرص على ما تميل إليه نفسُه وتجد عند
تلك الأصناف جميعًا مِن تتبع ما تشغف به وما تحرص عليه ما لو نظرَه الناظر المتجرد
لتعجّب من الفعل.
هذا الذي يلهث وراء المال ليلا ونهارا تارة في هذا البلد وتارة في ذلك البلد، إذا تأمل حالَه من ينظر إلى الآخرة ومن ينظر إلى أنه ليس لامرئ إلا ما كُتِب له تعجب من حاله ومن حرصه.
إذا نظر المرء إلى الذين يحرصون مجالس اللهو ومجالس القيل والقال، نظر
إليهم بتجرُّد وجد أن حرصهم يُتعجّب منه، ولأجل هذا لأجل أنّ الناس لابد أن يكون
عندهم حرص وجَّه المصطفى r هذه الأمة إلى أنَّ هذا الحرص الذي ركب في الأنفس أنه لابد أن يُوجه التوجه الصحيح وأن يُجعل في المسار الصحيح، يقول عليه الصلاة والسلام لهذه الأمة معلّما ومرشدا (
احرص على ما ينفعك).
إذا نظرت إلى أولئك الناس على اختلاف أصنافهم، وجدت أنهم إذا حرصوا فإنهم أبعد
ما يكون عن الحرص على ما ينفعهم في دارهم الآخرة فيما يأتيهم بعد الموت، فيما
سيستقبلون من الحياة الباقية التي لا تنقضي آمادها ولا تتقطع آجالها، إنما هي حياة
بلا موت وبقاء بلا انقطاع.
إنّ الحرص على تلك الحياة وعلى منزل المرء في تلك الحياة هو الحرص على ما
ينفع، هو الحرص على ما ينفع المرء؛ لأنّ العاقل ينظر إلى ما ينفعه، هل سينفعه هذا
الذي يلهيه في هذه الدّنيا؟ لا؛ إنه لا ينفعه، إنما الذي ينفعه نفعا حقيقيا باقيا إنما
هو النفع الأخروي، وإذا انتفع بشيء في هذه الحياة الدنيا فهو إما أن يكون سببا في
إعراضه عن الآخرة فهذا يكون مذموما، وإما أن يكون ليس بسبب جالب له الإعراض عن الدار
الآخرة، فهذا له حكمه بحسبه. وهكذا الذين يحرصون على أنواع العلوم والثقافات والأخبار التي تُنشر ها هنا
وها هناك يقرؤون كثيرا ويسمعون كثيرا، إذا تأملت حرصهم هذا كيف سيكون لو وُجِّه إلى الحرص على العلم النافع، إلى الحرص على ما به تُصَحَّح قلوبهم، ما به تصحح عقائدهم، ما به يقوى يقينهم بالله جل جلاله، ما به تُصَحَّح صلواتهم، تجد أولئك الحريصين إذا رأيت منهم قصورا في صلاتهم، قصورا في معرفتهم بالدين، في معرفتهم بالشرع، سألتهم لم هذا القصور؟ كيف تستغلّون الأوقات الكثيرة في قراءة أخبار، في قراءة ثقافات متنوعة، إما بالعربية أو بغير العربية؟ ستسألهم عن ذلك، فسيقولون إنهم قد عرفوا دينهم، وإذا ظنّ المرء أنه عالم فقد تدرّج في سلّم الجهل؛ لأن العالم الحق لا يشبع من العلم الذي يعلم معلومَة، فإنه لا يشبع من أُخرى، وهكذا الذي يحرص على ما ينفعه تجد أنه يحرص على ما يكون به قلبه على يقين صحيح بالله وعلى معرفة حقة بالذي خلق السموات والأرض وخلق ما بينهما وخلق الثرى، تجد الذي عنده عقل
صحيح، تجد الذي عنده عقل صريح، تجد الذي عنده بصيرة نافذة يحرص على أن تكون عبادته
بعلم نافع، إذا سألت كثيرين ممن يهتمون بالقراءة لم لا تقرؤون في العلم لم لا
تقرؤون في الأحكام التي فيها تصحيح لأعمالكم الدينية؟ وجدت عندهم أجوبة مختلفة؛
لكن الجواب الحق أنهم لم يحرصوا على ما ينفعهم. أيها المؤمنون: إن الشيطان يدخل على كل نفس بما رُكِّب فيها فيدخل عل من يهتم في بعض أمور الحياة الدنيا، بذلك البعض ويجب على المرء أن يكون متذكّرا بقول النبي r (
احرص على ما ينفعك) وإن أعظم ما ينفعك أن تكون في هذه الحياة في الدنيا حريصا على ما تُكتب لك به الحسنات في قولٍ تقوله وفي عملٍ تعمله.
إذا دخلت البيت احرص على ما ينفعك بما تكسب به الحسنات. إذا خرجت من البيت احرص على ما ينفعك بما تكسب به الأجر وتكسب به الحسنات، وتكسب به القرب من الذي يحفظك بحفظه، الذي يكلؤك بالليل والنهار.
أينما توجهت تذكر وصية المصطفى صَلَّى الله عليه وسلم (
احرص على ما ينفعك). أسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وبصفاته العلى أن يجعلنا من الذين يحرصون على ما ينفعهم، يحرصون على ما به إنارة قبورهم، يحرصون على به رفعة درجاتهم عند
الله، يحرصون على أن يتباعدوا عما يقرّبهم من دار الهوان والجحيم. واسمعوا قول الله جل جلاله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾[يس:12].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه حقا وتوبوا إليه صدقا إنه هو الغفور الرحيم.
يتبع...........